تاريخ بناء المسجد الأقصى
يُعد المسجد الأقصى واحدًا من أهم المعالم الإسلامية في العالم، فهو ذو مكانة روحية وتاريخية خاصة للمسلمين، ويحتل مكانة مقدسة في العقيدة الإسلامية. يقع المسجد الأقصى في القدس الشريف، ويُعد جزءًا من الحرم القدسي، الذي يضم أيضًا قبة الصخرة والعديد من المعالم الأخرى. في هذا المقال، سنتناول تاريخ بناء المسجد الأقصى، وأهم الأحداث التاريخية التي مرت عليه، وأهميته الدينية والثقافية.
الموقع والتعريف بالمسجد الأقصى
المسجد الأقصى هو ثاني أقدس موقع للمسلمين بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة، ويقع في البلدة القديمة من القدس. تبلغ مساحته حوالي 144 دونمًا، وهو يضم عدة منشآت وأروقة ومصليات وأبواب وساحات، ومن أبرز معالمه المصلى القبلي، الذي يشير إليه غالبًا مصطلح “المسجد الأقصى”، وقبة الصخرة التي تتوسط الحرم بقبابها الذهبية.
تاريخ بناء المسجد الأقصى
1. التأسيس الأول – عهد الأنبياء
يعتقد المسلمون أن بناء المسجد الأقصى يعود إلى عهد الأنبياء، ويُنسب في بعض الروايات إلى النبي إبراهيم عليه السلام، كما يُروى عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن أول بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركًا… ثم المسجد الأقصى”، وهذا يدل على القِدم الشديد للموقع. وتُشير بعض الروايات إلى أن النبي يعقوب عليه السلام جدّد البناء، وقد يكون للنبي سليمان عليه السلام دورٌ في توسعة وتطوير البناء أيضًا.
2. البناء في عهد النبي سليمان عليه السلام
يُعتقد أن النبي سليمان عليه السلام قام بتجديد بناء المسجد وتوسعته بعد أن أنشأه جده النبي يعقوب. وورد في القرآن الكريم في سورة النمل قصة سليمان عليه السلام مع الطير الذي أخبره عن مملكة سبأ، مما يدل على براعته في بناء المنشآت والتخطيط، ويقال إن بناء المسجد الأقصى وتوسيعه وتطويره كان جزءًا من ذلك الإنجاز العمراني.
3. الفترة الرومانية – عهد الملك هيرودس (37 قبل الميلاد – 4 ميلادي)
في عهد الحكم الروماني، قام الملك هيرودس بتطوير الحرم القدسي وإجراء بعض التعديلات عليه، حيث أمر بتوسعة الساحة المحيطة بالمسجد، وتم بناء الجدران الداعمة التي نراها اليوم في محيط المسجد. استمرت هذه التوسعات لفترة طويلة بعد وفاته، ورغم أن البناء خضع للتغييرات عبر العصور، إلا أن جزءًا كبيرًا من هذه التعديلات ما زال موجودًا إلى اليوم.
4. الفترة البيزنطية (313-636 ميلادي)
في عهد البيزنطيين، هُدم جزء كبير من المسجد الأقصى وتعرض للإهمال. لم يكن للموقع أهمية دينية كبيرة في العقيدة المسيحية البيزنطية، فتركوه ليهترئ. مع الفتوحات الإسلامية، تغيرت الأوضاع، وعاد المسجد الأقصى ليصبح موقعًا مقدسًا في قلب المسلمين، وسرعان ما بدأت جهود تجديده وتطويره.
5. الفتح الإسلامي وتأسيس البناء الحالي – عهد الخليفة عمر بن الخطاب (15 هـ / 636 م)
في عام 15 هـ الموافق 636 م، فتح الخليفة عمر بن الخطاب القدس بسلام بعد مفاوضات مع بطريركها، وقرر إحياء المكان وإعادة بناء المسجد الأقصى ليصبح مكانًا للعبادة. ويُعتقد أن عمر بن الخطاب قام ببناء مصلى بسيط في الجهة الجنوبية من الحرم، الذي يُعتبر أساس المسجد الأقصى في صورته الحالية. كما قام الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وابنه الوليد بن عبد الملك بتطوير المسجد وتوسيعه، وبنوا قبة الصخرة التي أصبحت من أبرز معالم الحرم القدسي.
6. التوسع الأموي – عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك (705 م)
يعتبر الوليد بن عبد الملك من أهم الخلفاء الذين ساهموا في بناء المسجد الأقصى بصورته الحالية، حيث أمر ببناء المصلى القبلي بقبابه المتعددة وأقواسه المميزة، ويُعد هذا البناء جزءًا أساسيًا من المسجد الأقصى. في هذا العهد تم تزيين المسجد بشكل فخم وإضافة الزخارف الرائعة، كما تم بناء المنبر الشهير.
7. العهود اللاحقة – العباسيون والفاطميون
في العهد العباسي، استمر تطوير المسجد وإعادة بنائه بعد تعرضه لعدة كوارث، مثل الزلازل التي أثرت عليه. قام الخلفاء العباسيون، مثل الخليفة المهدي، بترميم أجزاء من المسجد وإضافة بعض التوسعات.
وفي عهد الفاطميين، تم تجديد بناء المسجد بعد أن دمره زلزال قوي في عام 1033 م، حيث أمر الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله بترميمه وإعادة بناء الأروقة والأسقف.
8. الحروب الصليبية وإعادة السيطرة الإسلامية – عهد صلاح الدين الأيوبي
خلال الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر، استولى الصليبيون على القدس وحولوا المسجد الأقصى إلى كنيسة ومقراً للفرسان، حيث قاموا بتغيير بعض معالمه. وبعد تحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي في عام 1187 م، أمر بإعادة المسجد إلى وضعه السابق وإزالة كل التعديلات التي أجراها الصليبيون. كما أمر بتجديد المسجد وترميمه واهتم بإصلاح ما تضرر خلال تلك الفترة، وأعاد إحياء المسجد كرمز للإسلام.
9. الحقبة المملوكية والعثمانية
شهد المسجد الأقصى في الحقبة المملوكية والعثمانية الكثير من أعمال الترميم والتوسعة، حيث أولت الحكومات المتعاقبة اهتمامًا كبيرًا به. قام السلاطين المماليك بترميم وتوسيع الأروقة والمدارس المحيطة بالحرم. واستمر هذا الاهتمام في العصر العثماني، حيث أمر السلطان سليمان القانوني بترميم الأسوار المحيطة بالمسجد، وبناء الأبواب المتعددة وتزيين المسجد.
10. العهد الحديث والتحديات الراهنة
في العهد الحديث، وبخاصة في ظل الاحتلال الإسرائيلي، يواجه المسجد الأقصى العديد من التحديات. شهد المسجد بعض أعمال الترميم التي أشرف عليها المجلس الإسلامي الأعلى، بالإضافة إلى عدة جهود لترميم وترقية البنية التحتية للحرم الشريف. ومع ذلك، تبقى العديد من التحديات تهدد المسجد الأقصى، مما يزيد من ضرورة المحافظة عليه وإيلائه الاهتمام اللازم.
أهمية المسجد الأقصى في الإسلام
1. قدسيته الدينية
المسجد الأقصى هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وله مكانة عظيمة في قلوب المسلمين. وذُكر في القرآن الكريم في سورة الإسراء حين أسري بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
2. مكانة تاريخية
المسجد الأقصى شهد العديد من الأحداث التاريخية الهامة، بدءًا من قصص الأنبياء، ومرورًا بالفترات الإسلامية المختلفة. يمثل رمزًا للصمود أمام الصراعات، ويُعتبر شاهدًا على الحضارة الإسلامية.
3. أهمية ثقافية وعلمية
يُعتبر المسجد الأقصى مركزًا للعلم والدراسة، حيث قامت حوله العديد من المدارس الإسلامية والمكتبات. استقطب العلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وساهم في نشر العلم والمعرفة.
الخاتمة
تاريخ المسجد الأقصى هو تاريخ عريق ممتد، يختزل قصص الحضارات والأديان والأحداث الكبرى التي مرت على مدينة القدس. يمثل المسجد الأقصى رمزًا دينيًا وثقافيًا وتاريخيًا يعكس أهمية القدس في قلب العالم الإسلامي، ويظل إلى اليوم مكانًا مقدسًا ومحبوبًا للمسلمين، وواجب حمايته والمحافظة عليه يتجدد مع كل جيل.